قد مضى وقت طويل منذ ركبت عجلتي نظرا للحر وضيق الوقت الذي يمكن ان اركبها فيه بعد عودتي من العمل يومياَ. كان يغطيها التراب وبمجرد ركوبي عليها وجدت ان العجلة الامامية مفسية فاضطررت ان اركبها حتى آخر شارع تسعة بعد محطة المعادي وهي تفط وتنط كالمصاب بالزغطة. حتى وصلت لمكان العجلاتي.
في مدخل عمارة على بعد خطوتين من الرصيف وتحت مظلة شجرة عملاقة تظلل المدخل وتخفي هذا العالم الصغير تقع الورشة الصغيرة. وهي كما هو المتوقع من اي ورشة عجلاتي متناهية في الكركبة والقذارة. جلس امام المدخل، خارج الورشة المكدسة بالعجل والكاوتش عم “” مش عارفة اسمه ايه ” مستندا على ركبه ووجهه ذو التقاطيع النوبية منكب على عجلة الاطفال الصفراء المقلوبة امامه يصلحها.
جلست انا على جنب امام مدخل الورشة على كرسي خشبي قصير الارجل يجعل ركبي عالية عند الجلوس عليه حيث لمحت بطرف عيني عدد من شتلات الزرع موضوعة على افريز العمارة العالي الموازي وعليه وضع كيس زبالة اسود صغير لا تخطئه العين – من الاخر كنت جالسه ملاصقة للزبالة -وانفكت انظر اليه هو ومساعده الذي انكب يصلح وينفخ عجلتي.
بدا لي الاثنان من عالم اخر، هما على بعد خطوتين من الرصيف والشارع الرئيسي الا انهما منفصلان تماماَ عنه. اتذكر حين رايت عم ” مش عارفة اسمه ايه” للمرة الاولى وكيف ظننت انه كشري وعدواني وقليل الكلام، صورة تغيرت تماما الان خاصة وانا اسمعه وهو يدندن اغنية قديمة لشادية غنتها لكمال الشناوي في احدى افلام الخمسينات.
قطة سريعة تهرع من امامنا لتختفي وراء الشتلات التي اخفت باب العمارة الذي يقع في الخلف، مشهد كان المبرر الوحيد له هو الكلبة التي تبعتها بسرعة لتختفي بدورها في الظلام مما قطع دندنة عم “اسمه مش عارفة ايه”
– آه عشان كده بتجري.”
ثم ضحك وانفك يحكي لي عن توسكى الكلبة التي رجعت الينا تتمختر بعد هروب القطة ناحية الشارع وجلست امامي عند قدمي تنظر لي بعينين تتوسل الدلع والحنان. بالرغم من ترددي نظرا لقذارتها ولكن كيف يمكن مقاومة حيوان حين يطلب منك مباشرة بدون خجل ولا تعقيدات البشر الحنان والحب.
– لا ديه كلبه نضيفة ومتربية على الغالي. ديه كلبة المكان احنا اللي مربينها. كان لما كان فاتح كي فسيه كان بيجبلنا عضم الفراخ وكنا بنسلوقهولها”
قاطعه مساعده “آه مكناش بنطبخ لينا بس كنا بنطبخلها”
– كان رزقها كبير كان كل الناس بتبعتلها اكل . الست اللي ساكنه هنا كمان”
اشار الى الدور الاول من العمارة المخفية وراء الشجيرات فبدت كالشبح في الليل.
استمعت اليهما وانا اضحك بصوت عالي وانا مازلت امسد على راس الكلبة التي مازالت تجلس عند قدمي مستسلمة تماما- كنت مندهشة من سلاسة الموقف وصفاء ضحكاتي وقدرتي على الانسجام في موقف من البساطة ما يقربه الى السريالية.
– يا اوبامة – انت فين يا اوبامة ” ظهر كلب رضيع بني يمشي يتطوح الى اليمين. “عايز ظبط زوايا – اصل الشاسيه اتعوج” – ضحك “عم اسمه مش عارفة ايه” – اصل دهسته عربية قلت حيموت. جبته هنا كان نايم يعيط وانا اقوله معلش. نامله يومين وقام فايق اهه”
– بس أخوه بوش ما قامش منها”
ضحكت وقلتله “ده حتى شيء طبيعي ان بوش يموت واوباما يفضل- يعني احتراما لتسلسل التاريخي”
ضحكا واستمرينا في الحديث والهزار فيرتفع احيانا صوته مناديا “يا اوباما – قوم يا اوباما” حتى انتهى المساعد من اصلاح العجلة وتاهبت لركوبها
قال لي ضاحكا مشيرا للفانوس المكسور لعجلتي البيجو القديمة الصدئة
– انا فاكر ادورلك على كشاف – كان عندك حق تدوري على فانوس في الضلمة ديه ما هو النور مابيبطلش يتقطع “
– “شفت بقى ده كان بعد نظر مني اصلي مؤمنة بنهضة مرسي” – اجبته ضاحكة خاصة حين لمحت الكلبة توسكى وهي تتربص بالقطة التي استخبت تحت احدى السيارات المركونة عند الرصيف ثم ابتعدت على العجلة
قد يبدو الموقف بسيط الا ان جلوسي لدى عم “مش عارفة اسمه ايه” لمدة عشرة دقائق اصابني على غير المتوقع بالبهجة بل ايضا بالامل في ان الناس مازالت قادرة على الضحك وعلى التواصل بل على الشعور بالحنان والحب المباشر والصريح اتجاه الغرب او باتجاه كائنات بائسة ككلاب الشارع.
أحب كتاباتك يا هبة
أحد الأسباب -الكثيرة- هو قدرتك على نقل الموقف ببساطة و عفوية، تجعليني أحس أني معك هناك، حيث الأحداث 🙂
تسميته للكلبين مضحكة، فعلًا المصريين عندهم روح النكتة و لا يجاريهم أحد 🙂
الزغطة = الحازوقة hiccups صح؟ 90% متأكد -من خلال السياق- و لكن ليس 100%! أول مرة أسمعها مع إني أعتبر نفسي ضليع لحد ما بالمصطلحات المصرية 🙂
*..هي الأشياء/المواقف الصغيرة التي تشعرنا بإنسانيتنا الملهوث وراءها* 🙂
شكرا يا هيثم على التعليق اللطيف 🙂
اه على فككرة صح الزغطة هي الحازوقة او بالعربية الفصحى الفواق
تسلم ايديكي يا هبة… جميلة كالعادة. للأسف أصبحنا نعيش في عالم افتراضي مكوناته الإعلام والانترنت وشبكات التواصل، وهي تركز على أحداث ومشاكل مختارة ومتفرقة، لا تكون في مجملها صورة طبيعية أو صادقة للواقع، بل صورة مفتعلة وكئيبة. لذلك، عندما نتعامل مباشرة مع لمحة من الحياة الطبيعية في الواقع، بحلوها ومرها نسترجعجزءا من آدميتنا، ونسترجع بساطة الحياة اليومية بعيدا عن هذه المؤثرات… وهذه إحدى المتع البسيطة المتاحة في مصر. وعلى رأي فيلم “عسل أسود”: فيها حاجة حلوة!